الخميس، مايو 22، 2008

رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر


رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر: تحولات المسيري من الأدب إلي الصهيونية ومن المادية إلي الإيمان

صلاح حزين


-->لكن الموسوعة ليست إنجازا عاديا بل هي مشروع عمر بأكمله، فقد استغرق إعدادها نحو ربع قرن أو أكثر من حياة المؤلف، وهي تجربة رأي المسيري أنها تستحق أن تروي، فحاول كتابتها وإضافتها إلي الموسوعة، ولكن نطاق التأمل لديه اتسع وحجم الصفحات زاد والأفكار ترابطت فتحولت هذه الصفحات إلي كتاب رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر الذي صدرت طبعته الثانية عن دار الشروق أخيرا والتي تضمنت بعض الإضافات إلي مادة الطبعة الأولي بما فيها صور تمثل مراحل مختلفة من حياة المسيري. وكما هو الحال في معظم كتب المسيري حمل الكتاب عنوانا فرعيا هو سيرة غير ذاتية غير موضوعية.



وما حدث مع المسيري في هذا الكتاب يكاد أن يكون تكرارا لما حدث معه حين كتب الموسوعة التي يعرف متي انتهي من كتابتها، فقد سلم مادتها مطبوعة علي أقراص في الشهر الأول من العام 1998، أما متي بدأ في كتابتها فهذا أمر خلافي كما يقول، ويتساءل عما إذا كان ذلك في عام 1975 حين بدأت في تحديث (موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية)، أم في عام 1970 حين بدأت في كتابتها، أم في عام 1965حين نشرت أولي دراساتي عن الصهيونية (ص407). ثم يمضي متسائلا أم يمكن القول إن نقطة البدء هي يوم أن ولدت باعتبار أن كل تجربة خضتها أصبحت جزءا من النموذج المعرفي والتحليلي الذي استخدمته في هذه الموسوعة (ص407) . إن هذا يعني أن رحلة المسيري نحو الموسوعة وخلالها هي في واقع الأمر سيرة حياته بأكملها، فمن يتابع كتابات المسيري سوف يكتشف أن أجزاء كبيرة من مادة الموسوعة حاضرة في كتبه التي بدأ في نشرها قبل نحو ثلاثين عاما بما في ذلك موسوعة المصطلحات والمفاهيم الصهيونية التي أصدرها في العام 1975، والتي شكلت الأساس الذي بنيت عليه الموسوعة الأخيرة في صورتها النهائية، وبما في ذلك أيضا بعض الكتب الأدبية التي وضعها، فالمسيري صاحب الموسوعة هو في الأساس أستاذ الأدب الإنجليزي المتخصص في الشعر الرومانتيكي.
***ثمة نقطة مهمة يشير أليها الكتاب، هي أن المسيري خلال الفترة الطويلة التي عمل فيها علي إعداد الموسوعة تعرض لعملية تحول فكري نقلته من الفكر المادي المتأثر بالماركسية إلي الفكر الإسلامي، وقد كان لهذا الانتقال أثره الواضح في التوصل إلي الصيغة النهائية لما أسماه النموذج التفسيري الجديد الذي قدمه في الموسوعة، مع ما يعنيه ذلك من ضرورة إعادة النظر في كثير من الأفكار والمفاهيم التي كانت قد أنجزت حين بدأ في كتابة الموسوعة ومن ثم إعادة صوغها في ضوء الأفكار الجديدة.هذا التحول من درس الشعر الرومانتيكي الإنجليزي إلي البحث في اليهود واليهودية والصهيونية، ومن الفكر المادي إلي الفكر الإيماني، ومن الشيوعية (يذكر أنه انتمي إلي تنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) الشيوعية بين العامين 1955 و1961) إلي الإسلام ، وتحولات أخري عديدة شهدتها حياة المسيري هو موضوع رحلته التي ضمنها الكتاب، وهي رحلة تشمل أحداثا وروايات وذكريات وقصصا عديدة رواها لإثبات أو تفسير أو نفي أو نقد أو نقض الأفكار الواردة في الكتاب. كما تضمن الكتاب تسجيلا لنواحي الحياة التي عاشها طفلا في دمنهور أو شابا في الإسكندرية التي درس الأدب الإنجليزي في جامعتها، أو رجلا ناضجا في الولايات المتحدة الأميركية حيث درس الأدب ثم عمل، أو في عدد من البلدان العربية الأخري التي عمل فيها أستاذا للأدب الإنجليزي. وتشمل هذه النواحي تسجيلا لبعض أغاني الأطفال وألعابهم، وإشارات إلي المعارك الفكرية والأكاديمية والثقافية التي خاضها خلال حياته الحافلة، وسردا للحكايات الشخصية الحميمة الخاصة بالأسرة والأبناء والجيران والأصدقاء والمدرسين والزملاء والخصوم والناس العاديين، واستحضارا للشخصيات رفيعة المستوي التي صادقها أو صادفها أو عمل معها في مصر مثل الكاتب محمد حسنين هيكل الذي اصبح وزيرا للإعلام لفترة وجيزة في العام 1970، والدكتور محمود رياض الأمين العام للجامعة العربية، والدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس المصري حسني مبارك، ووليام كوانت مستشار الأمن القومي الأسبق للولايات المتحدة، وشخصيات ذات وزن ثقافي في مصر مثل توفيق الحكيم ولويس عوض ونجيب محفوظ، وأخري من خارج مصر مثل نعوم تشومسكي وجاك دريدا وآخرين. غير أن أهم ما جاء في كتاب المسيري في رأيي هو كشفه للنقطة الجوهرية التي انطلق منها لصوغ مفاهيمه الأساسية التي ضمنها موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، والتي جاءت نتيجة لتحولاته الفكرية التي أشرنا إليها. ونقطة الانطلاق هي اكتشافه للفرق بين الأسس التي تقوم عليها المجتمعات الشرقية وتلك التي تقوم عليها المجتمعات الغربية، ممثلة في المجتمع المصري الذي نشأ المسيري فيه، والأميركي الذي عرفه طالبا أثناء دراسته الجامعية بين العامين 1963 و1969، ثم مستشارا ثقافيا لمكتب الجامعة العربية في واشنطن بين العامين 1975 و1979. فالمجتمع الشرقي في رأيه مجتمع يقوم علي التراحم، أما المجتمع الغربي فيقوم علي التعاقد. ومن هذه النقطة انطلق ليصوغ أفكاره الأساسية في الحياة والفكر سواء بسواء، فمبدأ التعاقد الذي يقوم عليه المجتمع الغربي مفهوم غير إنساني في جوهره كما يري، ومن هنا انطلق في نقده للغرب، هو نقد استهدف النموذج الغربي بأكمله، وهذا ما تشهد به كتب المسيري العديدة، ونقده للغرب تضمن نقضه للصهيونية ولإسرائيل التي اعتبرها نتاجا غربيا بحتا. أما المجتمعات الشرقية فتقوم علي قيمة التراحم التي ينهض عليها بنيان هذه المجتمعات، والتراحم قيمة أخلاقية في الأساس، وكانت تلك النقطة الجوهرية في التحليل الذي أوصله في ما بعد إلي الإيمان. ولكن المسيري ينتبه إلي ما قد توحي به هذه المقارنة من تبسط فيستدرك أكثر من مرة ليقول أرجو ألا يفهم من قصصي وتحليلي لها أنني أتصور أن المجتمع الأميركي كله مجتمع تعاقدي (ص 58)، إذ توجد في المجتمع الأميركي جيوب تراحمية كثيرة (ص58)، كما أنه لا يمكن القول إن مجتمعاتنا العربية تراحمية خالصة، فنموذج التعاقد والصراع يزحف بسرعة نحو مجتمعاتنا ويسيطر علينا (ص59).
***غير أن هذا الاستدراك لا يلغي حقيقة أن هذه الفكرة مركزية لديه، بل أنها كانت نقطة الانطلاق التي اعتمدها في تحليله للغرب ولإسرائيل وللصهيونية التي لا يري ظهورها منفصلا عن تاريخ الغرب بل جزءا عضويا منه، وهو التحليل الذي ينتهي إلي النظر إلي إسرائيل باعتبارها دولة وظيفية تتسم بمعظم (إن لم يكن كل) سمات الجماعة الوظيفية (ص452). والجماعة الوظيفية مفهوم مركزي في النموذج التفسيري الجديد الذي استخدمه المسيري في موسوعته. والجماعة الوظيفية كما يعرفها هي جماعة يستجلبها المجتمع من خارجه أو يجندها من داخله (من بين الأقليات الإثنية أو الدينية أو حتي من بعض القري أو العائلات)، ويوكل لها وظائف شتي لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة، من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ علي تراحمه وقداسته (ص447). ومثل هذه الجماعة هي بالضرورة نتاج مجتمع تعاقدي مثل المجتمعات الغربية. فبالنسبة للمسيري الجماعة الوظيفية جماعة تعاقدية لا تدخل في علاقة تراحمية مع المجتمع (ص453).وانطلاقا من هذا التحليل تصبح إسرائيل كما يري دولة وظيفية نشأت نتيجة عملية تعاقدية تمت بين الغرب والحركة الصهيونية، استورد الغرب بموجبها سكانها من خارج المنطقة وغرسها غرسا في العالم العربي، ثم عرفها في ضوء وظيفتها الاستيطانية والقتالية. وهي تدين بالولاء لراعيها الإمبريالي وتدافع عن مصالحه نظير أن يدافع هو عن بقائها وأمنها ويضمن لمستوطنيها مستوي معيشيا مرتفعا (ص452).وانطلاقا من هذا المفهوم لطبيعة إسرائيل ودورها يرفض المسيري مجموعة من الأفكار السائدة حول اليهود والتاريخ اليهودي والعداء للسامية ومعاداة اليهود وغير ذلك من أفكار منتشرة في الكتابات العربية عن اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل، فهو يري أن مصطلح يهودي مصطلح عام للغاية ومقدرته التفسيرية ضعيفة إن لم تكن منعدمة (ص463)، ويستخدم بدلا منه تعبير الجماعات اليهودية.كما يرفض تعبير التاريخ اليهودي، المستقل عن تاريخ جميع الشعوب والأمم، ويتساءل إذا افترضنا وجود تاريخ يهودي فعلا فما أحداث هذا التاريخ؟ هل الثورة الصناعية علي سبيل المثال من أحداث هذا التاريخ؟ أو أنها تنتمي لتاريخ الغرب. فالثورة الصناعية كما يؤكد، حدث لم يتأثر به يهود العالم العربي بالدرجة نفسها التي تأثر بها يهود أوربا، أما يهود أثيوبيا فلم يتأثروا به إلا علي نحو سطحي. كما يرفض تعابير أخري مثل الهوية اليهودية والشخصية اليهودية والتي لا يتردد في اعتبار الحديث في إطارها حديثا صهيونيا عنصريا معاديا لليهود في الوقت نفسه (ص467). واعتمادا علي هذا المفهوم ينطلق المسيري في تفسيره لظواهر مثل العداء لليهود الذي يعتبره شكلا من أشكال العداء للأقليات والغرباء والأجانب والآخر علي وجه العموم (ص458). أما الإبادة النازية (الهولوكوست) فقد وضعها المسيري في سياقها الحضاري الغربي العريض، ثم وضعها في سياق أقل عمومية هو السياق الألماني (ص464) في فترة محددة من تطوره.
***وفي هذا السياق الغربي نفسه يضع المسيري كلا من النازية والصهيونية فالصهيونية في تصوري ليست جزءا من العقيدة اليهودية، وإنما هي تجل إمبريالي للعلمانية الشاملة (ص472)، والعلمانية الشاملة واحد من عدد كبير جدا من المصطلحات التي سكها المسيري في هذا الكتاب ويعني به تلك الأيديولوجية الكاسحة التي لا يوجد فيها مكان للإنسان أو للقيم (ص299). أما النازية التي تقوم علي تفاوت الأعراق فإنها جزء لا يتجزأ من الفكر الغربي (ص463)، وليست انحرافا عنه كما يري، لذا فإن إبادة اليهود بنت شرعية للنازية وبالتالي للحضارة الغربية التي تمجد القوة فهي حضارة إبادية لا تتردد في إزالة الآخر من طريقها (فهو من الناحية العرقية يشغل مكانة أدني، ولذلك لا يستحق الحياة) (ص463)، ويضعها ضمن سلسلة من وقائع الإبادة المختلفة ابتداء من الهنود الحمر في القرن السادس عشر وحتي فيتنام والبوسنة في القرن العشرين .
هذه المقالة نشرت بمجلة أخبار الأدب التابعة لجريدة أخبار اليوم / العدد 960 بتاريخ 1/10/2006

ليست هناك تعليقات:

علاج مرض السكر بدون دواء

بد اية يجب أن نعرف أولا ما هو مرض السكر :- هو مرض مذمن , يتميز بارتفاع مستوى الجلوكوز في الدم إلى أعلى من المستوى الطبيعي نتيجة لعدم قد...